عدنان بن عبد الله القطان

27 جمادى الأولى 1443 هـ – 31 ديسمبر 2021 م

———————————————————————————

الحمدُ لله الذي رَفَعَ بهذا الدِّينِ أقواماً وَوَضَعَ به آخرينَ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له وليُّ الصالحينَ، قضى أنَّ العاقبةَ للمتقينَ، ونشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه، بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّينِ.

أمَّا بعدُ: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى، اتَّقُوا اللهَ ربَّكُم، وأَصلِحوا قلوبَكم وأعمالَكم: يقول جل وعلا: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)

معاشر المسلمين: من أراد الهداية بصدق وسعى لها سعيها، فسيوفَّق لها بإذن الله؛ يقول تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ومعنا اليوم عباد الله قصةُ ملفتة وممتعة لصحابي شابٍّ ذكي طموح، يعشق الحقيقة والصدق والوضوح، ويضحي في سبيلها بالمال والأهل والروح، شاب جريء مغامر، ترك أهله وبلده وضياعه، وتنقل بين البلدان، وخدم كبار السن؛ بحثًاً عن الهداية والدين الحق، شابٍّ ذي عقل راجح، وهمة عالية، وشكيمة قوية، وصبر دؤوب، إلا أنه عاش أول حياته في بيئة مجوسية وثنية تعبد النار، فقد كان يعيش في منطقة أصبهان من بلاد فارس، وكان أبوه كبير القرية ورئيسها، وكان غنيّاً مهيباً وذا عزٍّ وسلطان، وكان هذا الأب يحب ابنه حبًّاً عظيماً، حتى إنه من شدة حبه له خاف عليه وحبسه في بيته كما تُحبس الجارية! فهل عرفتم عباد الله من هو هذا الشاب المغامر الطموح، الباحث عن الحقيقة؟ إنه الصحابي الجليل: أبو عبد الله سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه. الزاهد العابد والورع التقي النقي، ترك الدنيا فاستقبلته الآخرة. قال عنه أهل السير: هو سلمان ابن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وحدَّث عنه، وكان لبيباً شجاعاً جريئاً من عقلاء الرجال وعُبَّادهم وزهادهم ونبلائهم… يقول الشَّابُّ سلمان عن نفسِهِ قبل إسلامه: واجتهدتُ في المجوسيَّةِ حتى كنتُ قَطِنَ النَّارِ، يعني (القيم الحارس عليها)، الذي يُوقِدُها فَلا أَترُكُها تَخبُو (تنطفئ) ساعةً. تصوِّروا عباد الله هذا الشَّابُّ من بلادِ فارسٍ، لم يَعْرِفْ من الدُّنيا والدِّينِ غيرَ عبادةِ النَّار، ومع ذلكَ فَفُؤادُهُ قَلِقٌ وحيرانٌ! وَصَدَقَ اللهُ العظيم: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).. في يومٍ من الأيامِ انْشَغَلَ أَبوهُ عن مَزرعتِهِ، فأمَرَهُ أنْ يَذْهَبَ إليها لِيَتفقَّدَ أحوالَهَا! فَمَرَّ هذا الشَّابُّ بِكنيسَةٍ لِنصارَى، فَدَخَلَ عليهم فَأَعجَبَتْهُ صَلاتُهم وقالَ: هذا واللهِ خيرٌ من الذي نحنُ عليه من عبادةِ النَّار، فَمَا تَرَكهَم حتى غربتِ الشَّمسُ وَتَرَكَ مزرعة أَبِيهِ، فَسَأَلَهم عن أَصْلِ دِينِهم قالوا: بالشَّامِ، فلمَّا عادَ قال أَبوهُ: أيْ بُنَيَّ: أينَ كنتَ؟ قال: مَرَرْتُ بِأُنَاسٍ يُصَلُّونَ في كَنِيسَةٍ فَأَعجَبَنِي دِينُهم! قال: أيْ بُنَي: ليس في ذلكَ الدِّينِ خيرٌ، دِينُكَ ودِينُ آبائِكَ خيرٌ منهُ، قالَ: كلاَّ -يا أبي- إنَّهُ لَخَيرٌ من دِينِنِا، فخافَ عليه أبوه، فَجَعَلَ قَيداً في رِجْلَيهِ ثُمَّ حَبَسهُ في بيتِهِ، قال: فَبَعثْتُ إلى النَّصارى إذا قَدِمَ عليكم رَكْبٌ من الشَّامِ فَأَخبِرُونِي بهم، حتى إذا أَرَادُوا الرَّجعَةَ إلى بلادِهِم ألقيتُ الحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي ثُمَّ خَرَجْتُ معهم هَارباً من أبي ودِينِه!  قَدِمَ سلمان مع الركب إلى الشَّامَ فسألَ عن أَفْضَلِ أهلِ الدِّينِ فيها، قالوا: الأَسْقُفُ في الكنيسةِ، قال: فجئتُهُ فقلتُ: إنِّي رَغِبْتُ في دِينِكَ وأحببتُ أنْ أَخْدِمَكَ وَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، قال: فَادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ، فكانَ رَجُلَ سُوءٍ؛ يَأْمُرُهم بالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيها، فإذَا جَمَعُوا إليهِ شيئاً اكْتَنَزَ لِنَفْسِهِ ولَمْ يُعطِ المَسَاكِينِ شيئاً، فَأَبغَضتُهُ بُغْضاً شَدِيداً لِمَا رَأَيتُهُ يَصْنَعُ، فلمَّا مات اجتمعوا لِيدفنُوهُ، فقلتُ لهم: إنَّه رَجُلُ سُوءٍ، قالوا: وما عِلمُكَ بذلك؟ قلتُ: أنا أدُلُّكُم على كَنْزِهِ، فاستخرجوا ذَهَبَاً وَوَرِقاً، فقالوا: والله لا ندفِنُه أبداً، فَصَلُبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بالحجارةِ! ثُمَّ جاؤوا بآخرَ فجعلُوهُ مكانَهُ، فما رأيتُ رَجُلاً أَفْضَلَ منه ولا أَزْهَدَ، فأحببتُه حبًاً شَديداً، فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَماَناً ثم حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، فأوصاني لِرَجل بالموصلِ هناكَ بالعراقِ فلَحَقتُ به، فوجدتُهُ خيرَ رجلٍ، ثُمَ أراد الراهب الذهاب، إلى عَمُّورِيَّةَ بالشَّامِ، فَلَحِقْتُ به وأخبرتُه خَبَرِي فقال: أَقِمْ عندي، فأقمتُ عندَ رجلٍ على هَدْيِ أصحابِه وأمرِهم، وكنتُ قد اكتَسَبْتُ لي بَقَراتٍ وغُنَيمَاتٍ، فلما نَزَلَ به أمرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قال: أيْ بُنَيَّ: لقد أظلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ مَبعوثٍ بِدِينِ إبْرَاهيمَ، يَخْرُجُ بأرضِ العربِ مُهَاجِراً إلى أرضٍ بينَ حَرَّتَينِ بينهمَا نَخْلٌ، يقصِدُ المدينةَ النَّبويَّةَ! اللهُ أكبرُ! سينطلِقُ من عَمُّورِيَّةَ من الشَّامِ إلى المدينةِ النَّبويَّةِ، نعم! ولكن ما هي علاماتُ هذا النَّبيِّ؟ فقالَ الراهب صاحبُ عَمُّورِيَّةَ: إنَّهُ يأكلُ الهديَّةَ، ولا يأكلُ الصَّدَقَةَ، وبينَ كَتِفَيهِ خَاتَمُ النُّبوَّةِ، فإنْ استطعتَ أنْ تَلْحَقَ بِتِلكَ البِلادِ فَافعَلْ، فَمَرَّ نَفَرٌ من التُجَّارِ فقلتُ لهم: تَحمِلُونِي إلى أرضِ العَرَبِ، وأعطِيكم بَقَرَاتِي هذهِ وغُنَيمَاتِي، قالوا: نعم، فأعطيتُهم إيَّاها وَحَمَلُونِي، حتى إذا قَدِمُوا بي وادِي القُرَى، ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي لِرَجلٍ من يهودَ، فكنتُ عندَه ورأيتُ النَّخلَ فَرَجَوتُ أنْ يكونَ البلد الذي وُصِفَ لي، وبينما أنا عندَه، قَدِمَ عليه ابنُ عَمٍّ لهُ من بني قُرَيظَةَ فابتَاعَنِي (اشتراني) فَاحتَمَلَنِي معهُ إلى المدينةِ، فو الله ما إنْ رأيتُها حتى عَرفْتُها! فأقمتُ بها وَبَعثَ اللهُ رَسُولَهُ بِمَكَّةَ حتى هاجرَ إلى المدينةِ، فو اللهِ إنِّي لَفِي رأسِ عَذْقٍ من نَخلٍ لِسَيِّدِي، لأنَّهُ يعملُ فلاَّحاً، إذْ أَقبَلَ ابنُ عَمِّه فقال: قاتلَ اللهُ بني قِيلَةَ -يعني بهمُ الأنصارَ- والله إنَّهم الآنَ لَمُجتَمِعُونَ بِقُبَاءٍ على رَجُلٍ قَدِمَ عليهم من مَكَّةَ يَزعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، فَلَمَّا سَمِعتُها، أخذتني رِعْدَةً حتى ظننتُ أَنِّي سَاقِطٌ على سَيِّديِ، فنَزَلْتُ عن النَّخلةِ، فجعلتُ أقولُ لابنِ عَمِّهِ: ماذا تَقُولُ؟ ماذا تَقُولُ؟ فغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً وقالَ: ما لَكَ ولِهَذا؟ أقبلْ على عَمَلِكَ، قلتُ: لا شيءَ، إنَّما أردتُّ أنْ أستَثْبِتَهُ عمَّا قال!!!

أيها الأخوة والأخوات في الله: لم يزلْ صحابِيُّنا الجليلُ سلمانُ الفارسيُّ رضي اللهُ عنهُ وأرضاهُ، يتنقَّلُ منِ المشرقِ إلى المغربِ باحثاً عن الحق وعن  نبيِّ هذهِ الأمَّةِ، فما أنْ سَمِعَ بِمَقدَمِهِ إلى المدينةِ النبوِّيَّةِ، حتى جَمَعَ ما عندهُ من طعامٍ ثُمَّ ذهبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهو بِقُبَاءٍ؛ لِيستَبينَ ما قالهُ الراهب صاحِبُ عَمُّورِيَّةَ من أنَّ نبيَّ اللهِ يأكلُ الهديَّةَ ولا يأكلُ الصَّدَقَةَ، وأنَّ بينَ كَتِفَيهِ خَاتَمَ النُّبوَّةِ، دَخَلَ على رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: بَلَغَنِي أنَّكَ رجلٌ صالحٌ، ومعكَ أصحابٌ لكَ غُرباءَ ذَوُو حَاجَةٍ، وهذا شيءٌ عندي للصَّدَقَةِ، فَرَأيتُكم أحَقَّ به مِن غَيرِكُم، فَقَرَّبْتُهُ إليه، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: (كُلُوا بسم الله)، وأَمْسَكَ يَدَه فلم يأكلْ، فقلتُ في نفسي: هذه واحدةٌ، ثُمَّ انصرفتُ عنه، فَجمَعتُ شيئاً من طعامٍ وقد تَحَوَّلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فقلتُ: هذه هديةٌ أكرمتُكَ بها، فأكلَ رسولُ اللهِ منها وأَمَرَ أصحَابَهُ فَأَكَلُوا معه، فقلتُ في نفسي: هاتَانِ اثنَتَانِ، ثُمَّ جئتُه وهو بِبَقِيعِ الغَرْقَدِ، قد تَبِعَ جَنَازَةً وعليه شَمْلَتَانِ التَحَفَ بهما، فَسَلَّمتُ عليه ثُمَّ استدرتُ أنظرُ إلى ظهرِهِ لِأَرَى الخَاتَمَ الذي وُصِفَ لي، فَلَمَّا رآني رسولُ الله ﷺ عَرَفَ أَنِّي أسْتَثْبِتُ عن شيءٍ، فألقى رداءَه عن ظَهْرِهِ فنظرتُ إلى الخَاتَمِ، فانْكَبَبْتُ عليه أُقَبِّلُهُ وَأبْكِي، وأمُسِكُ ظَهرهُ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَحَوَّل)، تعالَ من الأمَام، فَقَصَصْتُ عليه حَدِيثي، ثم أسلمت بين يديه.

أيُّها المؤمنونَ: فهل صفا الدَّهرُ لِسلمَانَ؟ كلاَّ فلقد كانَ عبداً رَقِيقاً لِيهوديٍّ لا يَستَرِيحُ مِن العَنَاءِ والعَمَلِ! حَتَّى إنَّهُ فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الخروج للجهاد في بَدْر وَأُحُد! فأَشارَ عليه رسولُ اللهِ أن يُكاتِبَ سيَّدهُ حتى يُعتَق، فَكَاتَبَ سيده (أي أتفق مع سيده على أن يكون حراً إذا أدى له قدرا من المال) فكاتب سيده، عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ يُحْيِيهَا لَهُ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً من الذهب فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: (أَعِينُوا أَخَاكُمْ). فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً -يعني فَسِيلَةً-، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وَدِيَّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ: (اذْهَبْ -يَا سَلْمَانُ- فَفَقِّرْ لَهَا -يعني احفر لها-، فَإِذَا فَرَغْتَ فَائْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ). فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ مَعِي فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فأَدَّيْتُ النَّخْلَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟ فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: (خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ)، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: (خُذْهَا، فَإِنَّ اللهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ)، فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، فوَ الَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، أَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ من المشاهد) …عبادَ اللهِ: لم يكنُ سلمانُ مُجاهداً فحسبُ، بل كانَ يَعرِفُ فُنُونَ الحربِ، فهو الذي أَنْقَذَ اللهُ بهِ المسلمينَ حين أشارَ عليهم بحفرِ الخندقِ الذي أدْهَشَ قُريشاً وجندَها، فكانَ فارسَ غَزوَةِ الخندقِ ومُهندِسَهَا، لذا تَخاصَمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ، كُلٌّ يُريدُهُ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: بل سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ).

وسلمانُ الفارسي هو مَنْ أنشدَ قائلاً بفخر:

أَبِي الإسلامُ لا أبَ لي سِواهُ

                                     إذا افتَخَرُوا بِقَيسٍ أو تَمِيمٍ

معاشرَ الشَّبابِ: سلمانُ الفارسيُّ مَدرَسةٌ في التَّضحيةِ والفِدَاءِ والبحثِ عن الدِّينِ والسَّعادَةِ، فأينَ منَ يَتَخَبَّطُونَ في الظُّلمِ وَيَتِيهونَ في أوحالِ الشَّهواتِ والشبهات؟ ويتأثَّرونَ بأفكارِ الكُفرِ والإلحادِ والانحراف، ولا يعتزون بدينهم بل يتشبهون بغير المسلمين في عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وسيء أخلاقهم، أين هم عن أمثال هؤلاء القدوات الأبطال، وهم قد نشئوا بين أبوين مسلمين وفي ديار المسلمين؟ وصدَقَ اللهُ العظيم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). فدُونَكُمُ النُّور والهِدَاية وعندَّكم الكتاب والسنة والسَّعادَةُ، واحذروا فمن: (لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)..

عباد الله: سلمانُ أعطى المُسلِمينَ وغيرَهم درساً أنَّ التَّديُنَ ليسَ مَظهراً إنَّما هو مَخبرٌ كذلكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

في قِصَّةِ سلمانَ تَجَلَّى التَّواضُعُ من المُربِّي الأولِ محمد صلوات ربي وسلامه عليه، بِأحلى وأَبهى مَنَاظِرهِ، تَجَلَّى الحرصُ والتَّكاتُفُ والأخُوَّةُ الإيمانِيَّةُ من الصَّحابَةِ الكرامِ بِأعلى مَعانِيها: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

فاللهمَّ بَصِّرنا من العَمَى، وأهدنا من الضَلالةِ، وأرِنَا الحَقَّ حَقًّاً وارزقناً إتباعه والباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنَابَهُ إنك على كل شيء قدير.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله رفعَ قدرَ أولي الأقدارِ، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ القهارُ، ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه المصطفى الْمُختارُ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الأطهار وأصحابِه المهاجرينَ والأنصارِ، والتَّابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: لما كان سلمان الفارسي على فراش الموت دخل عليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، فبكى سلمان فقال له سعد: ما يبكيك؟ تلقى أصحابك وترد على رسول الله الحوض، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض. فقال: ما أبكي جزعاً من الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: (ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب) فقال له سعد: اعهد إلينا عهداً نأخذ به بعدك، فقال له: اذكر ربك عند همك إذا هممت وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت) وقد جمع مال سلمان رضي الله عنه، فما تجاوز بضعة عشر درهماً.

ولما أحس سلمان بقرب أجله ودنوه قال لزوجه ائتيني بقدح فيه ماء، فنثر المسك فيه ثم أذابه بيده ثم قال: انضحيه حولي، فإنه يحضرني خلق من خلق الله، يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم أغلقي على الباب وانزلي. قالت: ففعلت وجلست هنيهة فسمعت هسهسة، قالت: ثم صعدت فإذا هو قد مات وفارق الحياة الدنيا.. وكان ذلك في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه بالمدائن، سنة ثلاث وثلاثين، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مثواه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

وهكذا عباد الله وجدنا في سيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه، كيف خرج من بلاده باحثاً عن الحق والهداية، يدفعه إلى ذلك سلطانُ الفطرة النقية، ولقد قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه). رأينا في قلب سلمان الفارسي مأوى الصدق والإيمان، والإخلاص، رأينا في سيرته، الزهد في الدنيا، وبيعاً لها بالآخرة، لقد كان سلمان سيداً غنياً في قومه، ثم صار عبداً فقيراً في سبيل إدراك الغاية، التي يستقر عندها قلبه، فلم يتحرر من الرق إلا بعد غزوة أحد، ليقدر الله له المشاهد كلها مع نبينا صلى الله عليه وسلم…

لقد ذكرتنا سيرته رضي الله عنه، غزوة الخندق ومشورته الثاقبة بحفر الخندق التي أفاد فيها من تجارب قومه الفرس، والتي حالت بفضل الله دون اقتحام أحزاب الشرك للمدينة، حتى جاء النصر من عند الله في ريح اقتلعت الكفر وهزمت أهله، عندئذٍ وقفنا منصتين أمام قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) في سيرة سلمان يتردد في أذهاننا ونرجو من ربنا تبارك وتعالى أن يستقر ذلك في قلوبنا، تتردد علينا كلمات ربنا في الصحابة الكرام، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) كما تتردد في أذهاننا كلمات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن سلمان ورفاقه ممن حظوا بهذه المنزلة من الصحب الكرام، (اللهَ اللهَ في صحابتي، لا تؤذوهم، ولا تتخذوهم من بعدي غرضاً فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيفَه). في سيرة سلمان رضي الله عنه، لآلئ ومَرجان، تحتاج إلى غوَّاصين من الأمة؛ أنَّى لمثلي أن يلتقطها وحده، لكننا نقف عباد الله صامتين أمام قوله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)

رضي الله عن أبي عبد الله سلمان وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

اللهم أدم علينا نعمة الإسلام وزدنا من فضلك ورحمتك إيماناً بك وطاعة لك، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

اللهم أصلح شباب المسلمين واجعلهم هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين ووفقهم لطاعتك وانفع بهم البلاد والعباد.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..

اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلاء والرِّبا والزِّنا والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واشف مرضانا، واغفر لنا ولموتانا وارحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين